غزة- فتور الاهتمام العالمي وتأثيره على القضية الفلسطينية.

المؤلف: د. عمار علي حسن11.18.2025
غزة- فتور الاهتمام العالمي وتأثيره على القضية الفلسطينية.

من الطبيعي ألا يستطيع الإنسان الحفاظ على جذوة مشاعره متقدة على الدوام تجاه الأحداث المتلاحقة التي يشهدها أو تحيط به. فمن المستحيل أن يظل الشغف متأججًا، والاهتمام حاضرًا، والرعاية مستمرة، دون أن يتسلل إلى النفس شيء من الضجر أو الفتور، وربما النفور، خاصة عندما تثقل هذه المشاعر على الروح، وتصبح عبئًا لا يُطاق، ومصدرًا للألم.

هذه الحالة النفسية والعصبية تنسحب على الأحداث الجسام التي تعصف بحياة الفرد أو تلامسها بشكل مباشر. ومن بين هذه الأحداث، تبرز الحروب كأحداث جلل تستحوذ على الأنظار، وتسيطر على تفكير الناس، وتصبح محور أحاديثهم في كل زمان ومكان. إلا أنه مع مرور الوقت، تفقد هذه الحروب بريقها تدريجيًا، وتتحول إلى مجرد معطيات أو أخبار يومية باهتة.

إن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ليست بمنأى عن هذه القاعدة العامة. فقد شهدنا في الماضي القريب أمثلة مماثلة، كالحرب الأهلية الدائرة في السودان بين الجيش وقوات "الدعم السريع"، والحرب الروسية الأوكرانية التي استأثرت باهتمام العالم بأسره في بدايتها، وتصدرت عناوين الأخبار في مختلف وسائل الإعلام. ولكن سرعان ما تراجعت هذه الأحداث إلى الخلف، لتحل محلها أخبار أخرى متنوعة، بما في ذلك الأخبار الترفيهية والقصص الخفيفة.

مشاعر متباينة

ينطبق هذا الأمر على أولئك الذين يتابعون الحروب عن بُعد، والذين غالبًا ما تكون مشاعرهم متباينة تجاهها منذ البداية. أما بالنسبة للأفراد الذين يعيشون تحت وطأة الحرب، والذين يسمعون دوي القصف وزئير الدبابات وأصوات الرصاص، والذين يحملون الجرحى إلى المستشفيات والقتلى إلى المقابر، فمن المستحيل أن يخبو اهتمامهم أو يفتر. فكل لحظة تحمل معها قصة مؤلمة تنبع من قلب النيران والدمار.

وحتى تعود الأهالي القابعين في قلب المعركة على فصولها الدامية، فإن ذلك يعتبر نوعًا من التحمل والصمود والعناد الإيجابي، فمن غير المعقول أن يتمكن جيش نظامي من مواصلة القتال في حين أن شعبه ساخط ومتذمر، ويزداد الاحتياج إلى المقاومة التي تعمل على شنّ حرب عصابات، والتي تحتاج بدورها إلى بيئة شعبية صابرة، تساندها وتمدها بالكثير من أسباب القدرة على مواصل القتال.

أما بالنسبة لمن هم خارج دائرة الحرب، فقد يصابون بشيء من الفتور، أو ربما التبلد، بمرور الأيام وتكرار الأخبار المتشابهة أو المتطابقة. ولكن إذا حدث أمر جلل ومستجد أثناء الحرب، فإن ذلك يعيد جذب انتباه الناس إلى المعركة، ثم يعودون إلى سابق عهدهم تدريجيًا، حتى يقع حدث آخر مماثل.

هذه القاعدة تنطبق أيضًا على ما يجري في غزة، على الرغم من أنه "إبادة جماعية" تتكشف فصول جريمتها كل يوم. فلم تعد الأصوات ترتفع بالهتافات المنددة بالحرب في الشوارع، كما كانت تفعل في الأسابيع الأولى. كما أن مستوى انشغال الناس على وسائل التواصل الاجتماعي قد انخفض، وبرزت أخبار أخرى على شاشات التلفزيون لتشارك غزة الاهتمام والتغطية الإعلامية. وقلّ الحديث عن غزة في الأحاديث اليومية الاعتيادية في المنازل والمقاهي وأماكن العمل.

حروب خاطفة

بالإضافة إلى العامل النفسي الفطري الذي يمنع الإنسان من الانغماس الكامل في حدث معين ومتابعته على مدار الساعة، هناك عوامل أخرى خاصة بالحرب على الشعب الفلسطيني في غزة، تتجاوز في تأثيرها كل الحروب السابقة، وذلك بسبب اختلاف مستوى الصراع من حيث الاتساع والعمق والمدى الزمني.

فقد اعتدنا على الحروب الخاطفة أو القصيرة بين العرب وإسرائيل، كما حدث في جميع الجولات السابقة. وكانت أطول هذه الحروب هي الحرب على غزة في عام 2014، والحرب على لبنان في صيف عام 2006. أما هذه المرة، فقد اقتربت الحرب من شهرها الرابع، وسط حديث إسرائيلي عن أنها لن تتوقف حتى تحقق تل أبيب أهدافها، وحديث مضاد من المقاومة بأنها مستعدة للمقاومة حتى النهاية، دون أن تضعف قدرتها أو تفتر همتها أو تستسلم.

هذا التصريح وما يقابله جعل الناس يدركون أنهم ربما يواجهون حربًا طويلة الأمد، وعليهم أن يستعدوا لاحتمال استمرارها عبر توزيع الاهتمام والانفعال على مدى الأيام، أو هكذا تفعل أدمغتهم بقدرتها الطبيعية التي أثبتها العلم، فتوزع الانشغال بالطريقة التي تراها مناسبة، وتحافظ على قدرة صاحبها على التحمل، أو أداء ما عليه من واجب، إذا كان الاهتمام بما يحدث لأهل غزة يعتبر واجبًا، أو هو أقل الواجب.

وهناك من لم يعد يطيق مرارة الألم الذي يعتصره كلما رأى مصابين يتعذر إنقاذ حياتهم بعد تدمير معظم المستشفيات أو منع الدواء عنها، أو رأى جثث الناس ملقاة على قارعة الطرق، أو شاهد البيوت المدمرة وقد تحولت إلى أطلال وأكوام من الخراب، أو رأى المتزاحمين حول موزعي الطعام الذي لا يكفي الجميع، على شفا مجاعة محتملة. مثل هؤلاء الأشخاص قد يصابون بالاكتئاب بسبب ما يسمعون ويرون، ويُنصحون بالابتعاد عن متابعة الحرب حفاظًا على صحتهم النفسية.

 محاولات يائسة

وهناك من رسخ صورة معينة في ذهنه عن المشهد عندما كانت المقاومة منتصرة، وتعد بالانتصار في النهاية، ولا يريد أن تهتز هذه الصورة أو تتزعزع. لذلك، يتجنب المتابعة اللصيقة أو الفضولية التي قد تفقده هذا الشعور أو هذا التصور الذي ترسخ لديه، ويغلق الباب أمام كل ما قد يعيده إلى التساؤل والقلق والحيرة.

ويندرج في هذا السياق أيضًا من اعتبر أن نتيجة الحرب قد حُسمت في يومها الأول، وأن كل ما يجري على الأرض الآن هو مجرد تحصيل حاصل، ومحاولة يائسة من قبل تل أبيب للانتقام من المقاومة على ما فعلته بالجيش الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. ويرى هؤلاء أن هذا الانتقام، مهما بلغ مستواه من الوحشية، لن يؤدي إلى تغيير المعادلة الحقيقية على الأرض، والتي تقاس بقدرة أي من الأطراف المتحاربة على فرض إرادته السياسية في نهاية المطاف.

هذه الحالة لا تقتصر على مناصري القضية الفلسطينية ومقاومتها فحسب، بل تنسحب أيضًا على من يؤيدون إسرائيل، وخاصة في الغرب. فالتحمس للجيش الإسرائيلي لم يعد كما كان، والتفاؤل بقدراته تراجع، حتى على المستوى الرسمي الغربي، وصرنا نسمع أصواتًا تنتقد استمرار الحرب، بعد أن كانت أصوات أخرى لا تنفك عن التعليق عليها في بدايتها.

نقد وتقريع

لكن هناك فرقًا كبيرًا بين الحالتين، فإسرائيل تدرك أن أي فتور يصيب الناس تجاه الحرب يصب في مصلحتها، إذ إن أكثر ما أزعجها هو هذا الاهتمام الكبير الذي أرسل إليها نقدًا وتقريعًا وتوبيخًا، حمله متظاهرون ملؤوا شوارع العديد من المدن الأوروبية والأميركية. هذه العيون التي تراقب ما ترتكبه من أفعال بشعة، ولذا فإن الفتور أو الانصراف عن المتابعة أو اللامبالاة يفيد تل أبيب في ارتكاب ما تريد في الظلام.

أما المقاومة الفلسطينية، فإنها تريد أن يظل هذا الاهتمام قائمًا، فهو ظهير وسند لها، يمدها بالمساعدة التي هي في أمس الحاجة إليها، وفي الوقت نفسه يضغط على أعصاب خصمها، الذي يدرك أن التحول في الرأي العام العالمي ضده هو خسارة كبيرة لم يعهدها بهذا الحجم منذ إنشاء إسرائيل في عام 1948.

وإذا استثنينا في كل هذا المتبلدين أو اللامبالين، فإن بقاء الانشغال والانفعال بالعدوان على غزة قائمًا هو مفيد في كل الأحوال للقضية الفلسطينية، خاصة وأن أحداثها ليست من قبيل المواجهات أو الحروب العابرة، إنما حلقات في سلسلة طويلة من النضال يجب ألا تدع لمن يقتنع بها ويؤيدها أي فرصة للانفكاك منها والتخلي عنها، حتى لا يستيقظ ذات يوم على فاجعة.

 

 

 

 

 

 

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة